مجلة كلمة الله تعالى

(الوراثة النبوية – بقلم : الدكتورة منى حمادي – العدد (67

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيبي

محمد شعاع نور اليقين وعين بصائر العارفين وطهارة

سرائر الموحدين وعلى آله وصحبه وسلم

عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : … وإن العالِم يستغفر له مَن في السموات ومَن في الأرض حتى الحيتان في الماء , وفضل العالِم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب , وإن العلماء ورثة الأنبياء , وإن الأنبياء لم يوَرِثوا ديناراً ولا درهماً , وإنما ورَثوا العلم فمَن أخذه أخذ بحظ وافر . رواه أبو داوود والترمذي

فالأنبياء خير خلق الله تعالى , وورثتهم العلماء خير الخلق من بعدهم .. فهم الراسخون في العلم القائمون به والعاملون بدعوة الخلق إلى الله تعالى على هدي الأنبياء ومنهجهم .. وهم الوسائط بين الرسول وأمته و خلفائه وأوليائه وخاصته وحملة دينه وهم المضمون لهم أنهم لايزالون على الحق لا يضرهم مَن خَذَلَهم ولامَن خالَفَهم فلم يكُ بعد الرسل مَن يقوم مقامهم في تبليغ ما اُرسِلوا به إلا العلماء فكانوا أحق الناس بميراثهم .

وقد قال فيهم الإمام أحمد ( الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون مَن ضلَ إلى الهدى , ويصبرون منهم على الأذى , ويُبَصِرون بنور الله جل وعلا أهل العمى , فكم من قتيل لإبليس قد أجبروه , ومن ضال جاهل قد هدوه , فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم , ينفون عن كتاب الله تعالى تأويل الجاهلين , وتحريف الغالين وانتحال المبطلين ) .

ولعل أميَزَ ماواجه الأنبياء في تبليغ الرسالة الإلهية إلى الناس هي ( التكذيب ) بما جاؤوا به من العلم عن الله تعالى بآياته , فلازمَتْ هذه السِمة ورثتهم العلماء , فمامن من عالِم رباني إلا وهو مُجَابَه ومُحارَب بالتكذيب الصريح من أعداء الإسلام .

وقد بات الإستهداف للإنتقاص من مكانة علماء الدين واضحاً من أجل زعزعة مكانتهم وقَدرِهم .. وما إستهدافهم إلا استهدافاً للدين , لأن النَيل من سمعة العلماء يورث الشك والإرتياب ويؤدي إلى فقدان الثقة في علمهم الذي نهلوه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم و لِفَتاواهم في المُعضلات المعاصرة التي تستجد على أحوال المسلمين , وإذا نُزِعَت الثقة منهم تسلَطَ الجُهال فأفنوا بغير علم فَضَلُوا وأضَلوا وهذا المقصود من تكذيب العلماء والإفتراء عليهم .

ولاشك أن تكذيب العلماء هو استمرار لأفعال المشركين والمنافقين في زمن النبوة الذين وجهوا سهام حقدهم لشخص الرسول الكريم بهدف تشويه صورته في الأذهان قبل توجههم للطعن في الدين فكانوا السَلَف الذي اقتدى به الخلف في تكذيبهم لكل البينات الإلهية :

قال تعالى في كتابه المبين : بسم الله الرحمن الرحيم : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } آل عمران 184

ولم يكن محور تفكيرهم إلا إتباعاً لأهوائهم وهو أساس التكذيب بالحق , كما ذكر القرآن الكريم :

قال تعالى في كتابه المبين : بسم الله الرحمن الرحيم : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً الفرقان } الفرقان 43

كما جاء أيضاً في محكم التنزيل : بسم الله الرحمن الرحيم : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } البقرة87

فدعوة الأنبياء والرسل إلى الله الواحد الأحد , هي ذاتها دعوة ورثتهم العلماء .. وكلما اشتط الزمن بعُدَ عن القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها الحبيب بالخيرية .. لذلك أصبح تكذيب العلماء الآن أشد ضراوة , ومحاربتهم أكثر شراسة بتلون إصغاء المكذبين إلى أهوائهم فما استلذته نفوسهم قبلوه وما استثقلته أرواحهم جحدوه فإذا كان الهوى صفتهم ثم عبدوه صار للمعبود صفات العابد … وها نحن نرى مصداق قول الحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فيما رواه أبوهريرة رضي الله تعالى عنه : ( سيأتي على الناس سنواتٌ خداعاتٌ , يُصدَقُ فيها الكاذب , ويُكَذَب فيها الصادق , ويؤتَمَنُ فيها الخائن , ويُخوَنُ فيها الأمين , وينطق فيها الروَيْبِضة ) قيل : وما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ) رواه الإمام أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه الألباني ( 3650) في صحيح الجامع .

فقد استشرى تكذيب العلماء الصادقين وتخوينهم وإيذائهم من كل مَن اكتست روحه بعلائق الأغيار وتشربت نفسه الحقد على الأبرار فوجد نفسه مرمياً خارج حدائق الأسرار هارباً من قول العزيز الجبار .. فالعلم الرباني يلقيه العلماء ويلقنونه بسموه الروحاني إنما يعتبر (قَوْلاً ثَقِيلاً ) لا يحتمله إلا ذوو الهمم العالية في طلب الحق بالسبيل الموصل إليه , وأما مَن يُكذّب العلماء فلا يكذّب إلا آيات الله تعالى ومايعادي سواه , تلك المعرفة الربانية بمحكم تنزيله تعالى :

بسم الله الرحمن الرحيم : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } الأنعام33

فحين فتح الله تعالى لهم باب المعرفة بنعمته أغلقوه عليهم بالنكران وغفلوا عن التصديق والتحقيق ، فإن مَن ابتلاه ربه بقلب مطبق ووَضَع فوق بصيرته غطاء التلبيس لم يزده ذلك إلا نفرة على نفرة واستحق أن يكون من أصحاب الجحيم .

ولما كانت الوراثة النبوية للعلماء , كان الله تعالى بالمرصاد لمَن يكذِبهم ويعاديهم ويسعى للنيل من شخصهم فما كان سعيه إلا وبالاً عليه .قال تعالى في كتابه المبين : بسم الله الرحمن الرحيم : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } المائدة10

بسم الله الرحمن الرحيم : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } إذ جعل لهم عقوبتين : معجَلة وهي الفراق , ومؤجَلة وهي الإحتراق ..

فهم المجرمون المستحقون للخلود في الغضب الإلهي :

بسم الله الرحمن الرحيم : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } الأنعام147

إذ خصَ علمائه بالرحمة وخصَ أعداءهم بالطرد واللعنة جزاء لإجرامهم , اولئك الذين قابلوا أنوار الربوبية بالجحود , وحُكم الرب بالرد فلابد أن يلقوا الهوان ويقاسوا الآلام والأحزان بعجز وخنوع ويخلدوا في نار سعوا لها واستعدت لهم :

بسم الله الرحمن الرحيم : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } الأعراف36

فمن كذَب سبق له حكم الشقاء ولو كان في فردوسه الموهوم تتداركه السخطة وتخرجه اللعنة . ولايُسمع دعاؤه ولاينفع بكاؤه ولايكشف بلاؤه ولايرفع عناؤه .. وأشد ما يجده من عذاب هو نصرة الله تعالى لعلمائه أولياء الحق وتنجيتهم من مكائد الكائدين , ودحر الظالمين وإغراقهم في لجج العذاب الأليم المعجل والمؤجل , ذلك أنهم ( َلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) فكان لهم الخذلان والتدمير بقضاء رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم : { فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } الفرقان36

فسنة الله تعالى في الإنتقام أن يثير رياح البغتة في حال الإنغماس في النعمة والمنة لتكون فجأة عقوبة المكذبين أشد وأنكى , اولئك المجرمين الظالمين الفاسقين الخاسرين الضالين , فالحق كما يعاقب بالآلام والأهوال يعاقب بالإملاء والإمهال ( وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ ) وأجدر الخلق بنصره هم علمائه وخاصة خاصته المصطفين الأخيار الحاملين للواء الدين لتكون كلمة الله تعالى هي العليا بنصره ( وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه , واجعلنا من الصادقين المصدقين , المحارِبين لأعداء الدين , واجعلنا تابعين حقيقيين لأنبيائك وورثتهم العالِمين العامِلين آمين يارب العالمين .

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

والحمدلله رب العالمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى