مجلة كلمة الله تعالى

(صفات ولكن – بقلم : الدكتورة نور ميري – العدد (75

بسم الله الرحمن الرحيم

و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد أكمل بني البشر مَن علَّمنا جمال و جلال الصفات في الحق وعلى الآل و الصحب أجمعين والتابعين الطاهرين

 

اعتاد الناس أن يطلقوا على بعضهم و يتبادلوا فيما بينهم الأوصاف المتعددة سواء على سبيل التعريف بالأشخاص والإشارة إليهم أو مدحهم أو ذمهم بناحية ما .. و من المتعارف عليه أن وصفاً ما كالذكاء أو الفطنة أو الحُسن مثلاً هو من الأوصاف المستحسنة المحمودة بالعموم لدى البشر .. أمّا أن تصف أحدهم بأنه ماكر أو داهية على سبيل المثال فإن ما يتبادر إلى الأذهان مباشرة عند الأغلبية العظمى هو أنك تذم أو تنقض أو حتى تسيء إلى صاحب ذاك الوصف .. مع أن العكس تماماً قد يكون هو الصحيح و إليكم بعض التوضيح في الأمثلة التالية :

صفة المكر :

ليس المكر من الأوصاف السيئة أو المقصود بها الذم على وجه الإطلاق, والدليل هو أن الله – جلَّ وعلا شأنه – قد وصف به نفسه في قرآنه الكريم فقال : { وَمَكَرُواْوَومَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } آل عمران54 , فأثبت سبحانه لنفسه وصف المكر و كان من أسمائه اسم (خير الماكرين) .

صفة الدهاء :

من الصحابة الكرام مَن وُصِفوا بالدهاء بل وكان لهم كوسام تميزوا به عن غيرهم وهم أشرف الناس ( كسيدنا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه) الذي كثيراً ما استخدم دهاءه في خدمة الحق و إعلاء كلمته و نشر تعاليم دين الإسلام بين الناس .

صفة الخداع :

ليس كل مَن يخدع هو سيء بالإطلاق بل لعل من الذكاء أو الضرورة أن يقوم المسلم بخداع غيره في بعض الأحيان كما هو الحال في الحروب مع أهل الكفر, حيث قال رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ” الحرب خدعة ” * صحيح البخاري .

صفة البطش :

البطش في سبيل الحق هو من الأوصاف المحمودة التي من الممكن أن يتصف بها المسلم، كما وأن من أسمائه تعالى اسم ( شديد البطش ) حيث جاء في القرآن الكريم : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } البروج12 ، كذلك هناك إشارة إلى هذا الفهم الإيجابي للبطش في الحديث القدسي : ” ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته : كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، و يده التي يبطش بها …” * صحيح البخاري .

صفة الكيد :

وكذا هو الكيد لا يجوز وصفه بالسيء عموماً .. فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا في قرآنه العظيم بأنه يكيد :

قال تعالى : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } الأعراف183, و قال : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً {15} وَأَكِيدُ كَيْداً {16} سورة الطارق .

وإن سيدنا إبراهيم عليه السلام لجأ إلى الكيد في إحدى المرات ليوقظ قومه الكافرين بالله من غفلتهم وضلالهم ويقيم الحجة عليهم فدمّر جميع أصنامهم بالفأس ما عدى الصنم الأكبر حيث علّق الفأس في عنقه وادعى أن الصنم الأكبر مَن حطم الأصنام الأخرى .

قال تعالى : { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} …. قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63} فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64} سورة الأنبياء .

وكذلك فَعل سينا يوسف عليه السلام مع إخوته (الذين سبق و ألقوه في الجب) في القصة المعروفة عندما أراد أن يأخذ من أيديهم أخاه الصغير و يبقيه معه في حكم مَلِك مصر .

قال تعالى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } يوسف76

الفيصل في الحكم :

ما نود قوله هو أن أي صفة من الصفات من الممكن أن تؤدي معنى سيء أو قبيح ( شرير ) أو تؤدي معنى جيد أو حَسن ( خيّر ) .. و ليس العُرف هو الفيصل الحقيقي في الحكم بل إن الشرع و الحقيقة هما الفيصل .

و لذا ننظر إلى عاملين أساسيين عند صاحب الصفة هما : ( نيته و تفعيله للصفة التي لديه ) :

فإذا كانت نيته و تفعيله للصفة فيما يخدم الحق و الحقيقة و يوافق إرادة الله تعالى و شرعه .. فالصفة حسنة ( جيدة ) .

وإذا كانت نيته و تفعيله للصفة فيما يخدم الباطل و يعارض ما يرضاه الله تعالى و شرعه .. فالصفة قبيحة ( سيئة ) .

فـ ( الحَسن ما حَسَّنه الشرع و القبيح ما قَبَّحه الشرع ) .

و في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ” الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ” * صحيح البخاري .

وفيما يلي بعض من الأدلة والتفصيل عن ما ذكرنا …

مثال ذلك في المكر :

قال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً {42} اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ … {43} سورة فاطر .

وصف الله تعالى هنا المكر بالمكر السيء لأن أهله كانت نيتهم في الباطل و تفعيل مكرهم كان فيما يعارض إرادته عز و جل .

وأما ما قد يمكر به الحاكم العادل ليوقع بالمجرمين و يسلمهم للعدالة فهذا مكر خيّر وحسن ويخدم الحق .

ولاحظ كيف نجد لذلك إشارة في اسمه تعالى ( خير الماكرين ) .

مثال ذلك في الكيد :

قال تعالى : { ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } الأنفال18

{ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } يوسف52

ففي كلا الآيتين المذكورتين كان الكيد كيداً سيئاً لأنه كيد موسوم بالكفر والخيانة .

أما كيد كل من سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه وأصنامهم وسيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته ( كما سبق وذكرنا ) فإنه يًوصف بأنه مكر حَسن أو جيد وذلك لأن نية كل من الاثنين كانت إحقاق الحق ولم يكن في تفعيل مكرهما ما يخالف إرادته تعالى .

يقول الشيخ حبنَّكه الميداني في كتابه ( قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل ) :

جاء في معنى (الكيد) لغة ما يلي : ” الكيد : الاحتيال والاجتهاد، الكيد : التدبير بباطل أو حق ” …. ونستطيع أن نقول : إن هذه المعاني تدور حول اتخاذ أعمال وتدبيرات توقع الآخرين بما يكرهون، وبأدنى تأمل يتضح لنا أن اتخاذ مثل هذه الأعمال قد يكون في الخير وقد يكون في الشر، وجانب الخير منه لا يكون منافياً للكمال، بل هو من عناصره .

أهمية التفريق بين معنى الصفات الجلالية و معنى الصفات السيئة :

هنا نلفت النظر إلى ضرورة الإنتباه إلى تصنيفات الصفات وفهم أنواعها ومعانيها وإلى أهمية التفريق ما بين صفات الجلال و الجمال وبين الصفات السيئة و الجيدة .. فليست كل صفة تحمل جلال هي صفة سيئةً حصراً كما قد يظهر للبعض .. و كما ادّعى بعض المتمشيخين بأن صفات كالضر والمكر لا يجوز نسبها إلى الله عز و جل لأنها صفات سيئة ولا تليق به تعالى, أو بأن بعض الأسماء الجلالية مثل ( القاهر أو الضار أو القابض .. ) ليست من أسمائه تعالى الحسنى ضاربين بالكثير من الأحاديث الشريفة بهذا الخصوص عرض الحائط ومهمشين والعياذ بالله لما أثبته تعالى عن نفسه في آيات قرآنه العظيم، فسبحانه تعالى عما يصفون فله الكمال الالهي المطلق من صفات جمال و جلال .

 

نسأل الله تعالى أن لا يكون ظهور صفاتنا إلا فيما يحبه و يرضاه ..

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

والحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى