بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله الجميل، و الصلاة و السلام على القائل إن الله جميل يحب الجمال محمد بن عبدالله صلاة جمال و كمال و على الآل و الصحب و الوارثين و التابعين إلى يوم يقوم الأشهاد
كنا قد ذكرنا في المقالة السابقة من تذوق الجمال و الفن معادلة التذوق الجمالي، و ذكرنا أول جزئ من العادلة و هو التذوق و تفصيلاته …
أما اليوم في الجزء الثاني من مقالة تذوق الجمال و الفن فسنتحدث عن الجمال و تفصيلاته، بنية الوصول لحقيقة الجمال بإذنه تعالى للغاية منها …
الجمال و تفصيلاته :
أما الجمال وهو الشق المتعلق بعملية المعالجة في معادلة التذوق الجمالي الفني، فإنه موضوع مختلف فيه و ذو تفرعات و تخصصات كثيرة، و لكننا سنتناوله بشكل بسيط، فنبدأ بالمعنى اللغوي :
جمل :
والجَمَال مصدر الجَمِيل، والفعل جَمُل.
ابن سيده : الجَمَال الحسن يكون في الفعل والخَلْق.
قال ابن الأَثير: والجَمَال يقع على الصُّوَر والمعاني؛ ومنه الحديث: إِن الله جَمِيل يحب الجَمَال أَي حَسَن الأَفعال كامل الأَوصاف .
جمل :
الجيم والميم واللام أصلان: أحدهما تجمُّع وعِظَم الخَلْق، والآخر حُسْنٌ .
هذا تعريف اللغة و المعاجم و لكن قبل طرح المعاني الاصطلاحية للجمال لنتوقف قليلا للتفكير :
لنفكّر في إجابة عن ما هو الجمال ..ما هو من وجهة نظرك ؟ ما الذي يجعلك تحكم على هذا الشيء أو ذاك : لوحة فنية ، شعر امرأة ، ابتسامة طفل ، مشهد من فيلم سينمائي ، رواية ، أغنية ، موسيقى ، نخلة على ضفة نهر ، شلاّل من سفح جبل ، عمارة ، سلوك مهذّب …بأنه جميل ؟
هل هو جميل لأنه أثار فيك متعة معينه؟ أو استدعى ذكرى جميل أو حزية في نفسك؟ أم أنه استثار فيك نزعة إلى الدهشة ثم التفكير؟ أم لأنه أثار الفرح في نفسك فقط؟ أم أنه أطلق عواطف و خيالات كانت أسيرة إلى سماء الحرية ترقص في فضاء بلا حدود؟ أو انه هو ذلك الشعور الذي يدفعنا لترك كل أمر و التعلق به وحده حتى نصل للفناء؟!
ناقش الفلاسفة و المفكرين و الباحثين من مختلف العصور و الحضارات فكرة الجمال و مفهومه ومنهم من جعله مفهوماً مستقلاً بذاته و منهم من قرنه بمفاهيم أخرى ومنهم من جعله جزئ من كل، و من الأمثلة لا الحصر على هذه الأفكار و النقاشات:
الجمال عند أفلاطون ” صورة عقلية مثل صورة الحق والخير ” . وهو عند ديمقريطس ” المتوازن في مقابل الإفراط أو التفريط “. ومع أن سقراط ربط الجمال بالخير والنافع والمفيد ، لكنه وصفه أيضا بأنه نوع من الهوس. بينما ذهب السوفسطائيين إلى القول أنه لا يوجد جميل بطبعه ، بل يتوقف الأمر على الظروف وعلى أهواء الناس وعلى مستوى الثقافة والأخلاق . أي أن الجمال مسألة نسبية نقررها نحن وليس الأشياء .و يرى القديس أوغسطين بأن الجمال يقوم في الوحدة بين المختلفات والتناسب العددي والانسجام مع الأشياء الأخرى .و كل ما يقوله الرومانسيون في الجمال ،والطبيعيون والواقعيون والنهضويون و…وهيغل وكانت وغيرهم من الفلاسفة و العلماء السابقين و اللاحقين الذين حاولوا تفسير الجمال و وضع تعريف له بعيداً أن الأصل و المنبع الأساس …
و لما كان الاسلام هو الدين الجامع الخاتم الذي انزل من الملك الحي الجامع فقد ذكر الجمال و كلماته و تعبيراته في القرآن و السنه.
فإذا كان الجمال مظهر اللطف والرحمة في الكون فإن القرآن الكريم هو كتاب الجمال و دستوره بامتياز دون أي نزاع أو جدال، فهو نفسه يشكل تحفة فريدة من تحف الجمال تعتبر هي الأسمى من حيث روعة اللغة وبراعة الأسلوب وسحر البيان ، وهذا ما شهد به أهل الذوق بمن فيهم الخصوم والمعاندون ، ولا يزال قول الوليد بن المغيرة مجلجلاً حتى يومنا هذا ،حيث وصف القرآن الكريم بقوله:( والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة،…)
ثم وعلاوة على تقديم القرآن نفسَه كنموذج فنّي لا يُضاهى ، فإنه قد اهتّم بجمال الطبيعة اهتمامًا بالغًا داعيًا الإنسان إلى تصفح مشاهده والتملّي من بديع هباته .ويمكن للمتتبّع أن يلاحظ أن القرآن الكريم قد تناول ظاهرة الجمال من جهات متعدّدة منها ما جاء فيها بلفظ الجمال صريحاً أو بأحد اشتقاقاته و نعوته. و لأن الإنسان مجبول على أن ينشرح صدره لما هو جميل وأن يستحسن النافع المفيد و يربطه بالجمال، أراد الإسلام أن يهذب ما جبل في النفس من طبائع بما يتلاءم وتلك الفطرة ولا يقمع مكنوناتـها فورد في محكم آياته التي ورد الجمال فيها بلفظ واضح صريح،أو بأحد مشتقاته و مفرداته من حسن و زينة.
لفظ الجمال :
ويختص هذا اللفظ في وروده بشعور الإنسان بما يرى بـهجةً ومتعةً، أو بوقع شيء ما في نفسه وقعاً مرضياً سواء تحقق هذا الرضى عن طريق الحواس أو عن طريق الإثارة الوجدانية. ففيما يرتبط بالحواس يأتي استعمال هذه الكلمة للتعبير عن إشباع حاجة الإنسان إلى متعة النظر في مثل قوله سبحانه:
( والأنعام خلقها لكم فيها دفئ ومنهاتأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم ) النحل 5 – 7
فهذه الأنعام نافعة، ولكن القرآن الكريم تحدث عن الإحساس بجمالها في سياق مستقل عن المنفعة وإن ورد هذا السياق بين منفعتين: لكم فيها منافع ومنها تأكلون والمنفعة الثانية هي: وتحمل أثقالكم إلى بلد… ، وبين هاتين المنفعتين ورد قوله سبحانه : ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، ولم يكن هذا الشعور بالجمال وكما هو صريح في الآية الكريمة بسبب المنفعة المتأتية من الأنعام، أي أن الأنعام لم تكن جميلة في نظر الناس لأنها كانت نافعة لهم وحسب بل لأنها كانت تشبع حاجة انفعالية معينة في نفوسهم، وكأن إشباع هذه الحاجة يمثل واحداً من منافعها لتستوي فيها المنافع المادية والانفعالية. وبـهذا أيضا فإنك ترى أن هذه الآية الكريمة لا تربط بين الجمال والمنفعة، أي أنـها لا تتحدث عن الجمال المحسوس في الأنعام انطلاقاً من كونـها نافعة، وكذلك فإنـها لا تفصل بينهما بل تجعل الشعور المستثار بالجمال واحدة من منافعها وسبباً لمتعة النظر وبـهجة القلب. وليس من الضرورة أن يكون مثل هذا الإحساس مرتبطاً بحقيقة الجمال الكائن في الشيء المرئي، فقد لا يكون ذلك “الشيء” جميلاً من وجهات نظر أخرى، ولكن شعور الرائي بالارتياح النابع من رؤيتها يضفي عليها تلك الصفة.
إن مثل هذا الرضى مؤجج للاحساس بالجمال وهو من ثمار الحس (النظر أو السمع أو غيرهما). وقد يتحقق الرضى الوجداني بالوقع العام لموقفٍ ما وهو الشق الثاني من مصدَري الرضى الذي يعبر عنه القرآن الكريم بلفظ الجمال واشتقاقاته. ومن الآيات التي ورد الجمال فيها بـهذا المعنى قوله جل وعلا :
( فصبر جميل ) يوسـف 83
( فاصفح الصفح الجميل ) الحجر 85
( فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ) الأحزاب 28
( واهجرهم هجرا جميلا ) المزمل 10
فالجميل الوارد فيها وفي غيرها من الآيات المباركات صفة لوقع مخصوص للموصوف في نفوس الآخرين، فالصبر الذي يأمر سيدنا يعقوب نفسه به استسلام لقضاء الله وقدره فتهدأ نفسه بذلك من جهة، ويوحي بطمأنة نفوس أبنائه من جهة أخرى حيث لم يتوعدهم بالويل والثبور ولم ينـزل بـهم عقابا، وكذلك الحال بالنسبة إلى (سراحاً جميلاً) أي أن يكون نوع السراح مريحا لنفوس نسائه – عليه الصلاة والسلام -. ومما لا شك فيه أن مفارقة الرجل لنسائه ليس جميلاً في حد ذاته بل لعله يكون شديد الوقع على نفس المرأة خاصة، ومع ذلك فإن القرآن الكريم استعمل الجميل صفة للفراق وكذلك استعمله للهجر، ولم يرد الجميل في هذين الموضعين للدلالة على الرفق وحسب بل للدلالة على وقع هذا الرفق في نفوس الآخرين بحيث لا ينتج عن الفعل استثارة سلبية أو ضغينة أو كراهية. فالجمال والجميل صفة شعورية يتحسسها الآخر من غير أن تدل على أن ” الشيء ” نفسه وفي حد ذاته جميل بل لتدل على أن الجميل إنما هو وقعه لا غير. ولعلك لاحظت أيضا أن الآيات السابقات خلت من الربط بين الجمال والمنفعة، ومن ثم فإنه ليس من الضرورة أن يكون الجمال أو الجميل في استعمالات القرآن الكريم صفة ملازمة للنافع كما أن هذا لا يعني أن المنفعة منحسرة عنه دائماً.
و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل و الحمد لله رب العالمين
يـتـبع فـي الـعـدد القادم إن شــــــاء الله تعالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى …