وصلى الله على سيدنا محمد شعلة الباحثين عن الحق في ظلماء الوجود , هادي الناس إلى رب العالمين وآله وصحبه وسلم.
إذا صفت سرائرنا من جميع ما يسخط الله عز وجلّ بحيث لم يبق في سرائرنا وظواهرنا إلا ما يرضي ربنا , أمكننا بعهد من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن نواظب على الصلاة في الصف الأول عملا بقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ” ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ” .
و النهى هي العقول مفردها عقل , ولا يكون العبد عاقلا إلا إذا كان بهذا الوصف الذي ذكرناه , فإن من كان في ظاهره أو باطنه صفة يكرهها الله تعالى فليس بعاقل كامل , ولا يتقدم للصف الأول بين يدي الله في المواكب الإلهية إلا الأنبياء والملائكة ومن كان على أخلاقهم , وأما من تخلف عن أخلاقهم فيقف في أخريات الناس خير له .
و ينبغي للإمام أن يأمر كل من عمل بعلمه بالتقدم كلما صلوا خلفه حتى يكون ذلك من عادتهم في الوقوف , ويأمر بالتخلف إلى الوراء من رآه لا يعمل بعلمه , ويعامل المصلين بما يظهرونه من الصفات الحسنة أو السيئة , فليس تأخيره لبعض الناس سوء ظن به إنما هو بحسب ما أظهر الناس من الأعمال الناقصة , ثم إن العمل بهذا العهد يعسر جداً على من يصلي خلفه المجادلون بغير علم , فإن كل واحد يقول أنا أفضل من فلان الذي قدم علي في الصف الأول أو الثاني مثلاً.
وربما سهل العمل به في المساجد التي يحضرها العوام أو يكون أهلها مضبوطين , كزوايا المشايخ التي قراؤها تحت طاعة إمامهم , ويؤيد ما ذكرناه من شروط التقدم للصف الأول ما رواه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم , وقال صحيح على شرطهما مرفوعاً عن العرباض ابن سارية : ” أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان يستغفر للصف المتقدم ثلاثاً وللثاني مرتين وللثالث مرة “.
أي لأن كثرة الاستغفار للشخص قد تكون لكثرة ذنوبه وقد تكون لرفعة مقامه , فأحد الاحتمالين يشهد لما قلناه.
وأما حديث خير صفوف الرجال أولها فالمراد بالرجال الكُمّل من الأولياء الذين هم كما وصفنا في أول العهد , فإن طهر الله تعالى يا أخي باطنك وظاهرك فبادر للصف الأول , وإلا فالزم الأدب.
ومما يشهد لنا في تأخير من يحب الدنيا إلى الصف الثاني وما بعده قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في حديث الترمذي مرفوعاً :” الدنيا دار من لا دار له , ومال من لا مال له , يجمعها من لا عقل له “.
فنفى كمال العقل عن كل من يجمع منها شيئاً زائداً على غدائه وعشائه في يومه وليلته , وما سلم من هذا الأمر إلا قليل من الناس , ويؤيده أيضاً قول الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : ” لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صرف ذلك إلى الزهاد في الدنيا ” .
وإيضاح ما أشار إليه الحديث من نفي كمال العقل عمن يجمع الدنيا إلا لله، لا من يجمعها حين يجمعها وفي بلده من هو مستحق لإنفاقها عليه من مديون ومحبوس وجيعان ونحو ذلك , فإن كانت نيته للجمع خيراً فهذا منه , فينبغي تقديمه عند كل عاقل اكتساباً للأجر , وغير ذلك من أمسك عن الإنفاق ورجح الحرص والشح عليه فهو ناقص العقل , وما قررناه من تأخير مرتكب المعاصي وجامع الدنيا عن الصف الأول هو ما عليه أهل السلوك وجمهور العلماء , لا على الأمر بتقديم الوقوف في الصف الأول على غيره مطلقاً كما هو مقرر في بعض كتب الفقهاء , فاعلم ذلك والله يتولى هداك.
وروى الشيخان وغيرهما مرفوعاً : ” لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا”.
وفي رواية مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم مرفوعاً : ” خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها “.
وروى ابن ماجه وغيره مرفوعاً عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان يستغفر للصف المقدم ثلاثاً وللثاني مرتين” وقد تقدم الحديث آنفاً ولفظ ابن حبان : ” كان يصلي على الصف المقدم ثلاثاً وعلى الثاني واحدة “.
وفي رواية للنسائي وابن حبان : ” كان يصلي على الصف الأول مرتين “.