مجلة كلمة الله تعالى

(السنة والعام – بقلم : الدكتورة نور ميري – العدد (68

بسم الله الرحمن الرحيم

و الحمد لله رب العالمين الأول و الآخر و الظاهر و الباطن .. و مَن هو بكل شيء عليم .. و الصلاة و السلام على سيدنا محمّد النبي الأمي خير من عَلِمَ وعلّمَ و بيَّن عن ربه الجميل الجليل و على آله و صحبه أجمعين و مَن تعلّم منه من التابعين المحسنين

 

اعتدنا أن ننطق في الأعياد أو المناسبات السعيدة بعبارة ( كل سنة و أنتم سالمون ) أو ما شابهها مثل ( كل سنة و أنتم بخير ) .. فهل تعلمون أن استخدام لفظة ( سنة ) هنا هو خطأ في هذا الحال و المكان , بينما الصواب هو أن نستخدم عوضاً عنها لفظة ( عام ) بحيث يقال فقط ( كل عام و أنتم بخير ) ؟

قد يعتقد المرء لأول وهلة أن هاتان اللفظتان – (عام و سنة) – هما مترادفتان تماماً في المعنى و أن لا فرق بينهما , أما الحقيقة فهي أن هناك فرق كبير و هام و حال مخصوص عند استخدام كل منهما , فهما ليستا مترادفتان تماماً معنوياً بل تعدان من ( الألفاظ الشبيهة بالترادف ) .

فكلمة سنة : تستخدم للإشارة إلى زمن الـ 360 يوم التي يرافقها حال ( شدة أو ألم أو جدب أو قحط أو كدر … و ما شابه ذلك ) .

و كلمة عام : تستخدم للإشارة إلى زمن الـ360 يوم التي يرافقها حال ( رخاء أو سعادة أو خصوبة أو عطاءات أو جماليات… و ما شابه ذلك ) .

و راقب كيف جاء ذكر هاتين اللفظتين في القرآن الكريم :

1- قال تعالى : {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }المائدة26

فلفظة ” سنة ” جاءت هنا مترافقة مع إشارة لحال معاناة و أسى ينتظر بني إسرائيل نتيجة الحرمان من دخول الأرض المقدسة و التيه الذي كتبه الله عليهم لأربعين سنة – فجاء تعالى بلفظة ” سنة ” حين ذكر تلك المعاني و لم يأتي سبحانه بلفظة “عام ” .

 2- قال تعالى : {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ }يوسف49

و حين أراد تعالى الإشارة لحال الرخاء و انفراج الأزمة على شعب سيدنا يوسف عليه السلام بعد سنين القحط السبع التي عانوا منها جاء بلفظة “عام ” في الآية – و ليس سنة – حيث يغاث فيه الناس و يعصرون و سط حال من النماء و خصب المحاصيل .

 3- و نلمس بوضوح أهمية و ضرورة التمييز بين معنى اللفظتين من قوله تعالى في الآية الكريمة التالية :

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ },{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }العنكبوت14- 15.

حيث علمنا هنا أن سيدنا نوح عليه السلام قد عاش ألفا كاملة من عمر حياته , و ليس 950 فقط – ( 1000 إلا 50 ) – كما يظن أغلب الناس . فإن لفظة ” عاماً ” في الآية دلت على استثناء فترة 50 عاماً – حوت تجليات سعادة و جمال – من الألف

“سنة ” – التي شابها جميعاً تجليات من الشدة والمعاناة – و التي قضاها سيدنا نوح يكابد وسط قومه الذين نكروه و كذبوه ، و بالتالي فإن مجموع ما عاشه سيدنا نوح عليه السلام كان ( 950 سنة مع تجليات شدة و معاناة وسط قومه + تبعها 50 عام مع تجليات جمال و سعادة عاشها بعد حدوث الطوفان و نجاته مع أصحاب السفينة = 1000 عمر حياته بالتمام ) .

 فلاحظ كيف أن معرفتنا لهذا الفرق بين اللفظتين أدى إلى فهمنا للآية الكريمة بالشكل الصحيح و عدم وقوعنا في خطأ التفسير الذي يقع فيه الكثيرون من غير ذوي العلم .

و بناء على ذلك , ففي حين أن هذا الاختلاف قد لا يبدو بتلك الأهمية للبعض في استخدامات الحياة اليومية العادية , إلا أن له و لـ ” علم الألفاظ الشبيهة بالترادف ” – الذي تندرج هاتان اللفظتان تحت لوائه – أهمية بالغة و حساسة في مسألة تفسير القرآن الكريم , لذا كان من الواجب على جميع العلماء ممن أرادوا تفسير القرآن أن يتعلموا هذا العلم و أن يكونوا ملمين بهذا الفرق بين معنى لفظتي ( عام و سنة ) و كذا بغيرها من الفروق بين معاني الألفاظ الأخرى الشبيهة بالترادف – مثل ( عمل و فعل ) , ( خاف و خشي ) , ( السبيل و الطريق ) .. الخ – و ذلك بغية تحصيل الفهم الصحيح و الدقيق لمعاني الآيات المراد تفسيرها و تفادي الوقوع في أي أخطاء شائعة كالتي ذكرناها في الآية السابقة .

إن ” علم الألفاظ الشبيهة بالترادف ” هو علم جميل و دقيق و له علاقة باللغة العربية , فهو علم يُغني ثقافتنا اللغوية و فهمنا البلاغي لنصوص لغتنا العربية الأصيلة و التي هي أساس القرآن الكريم و فهم آياته , و بالتالي فهو لا يساعدنا فقط على الوصول إلى الفهم و التفسير الدقيق لمعاني الآيات القرآنية كما أشرنا أعلاه , بل و يؤدي بنا تباعاً إلى التحقق السليم بتلك المعاني و إلى التطبيق العملي لتفاصيل و أحكام الآيات في سلوكيات حياتنا بحق و وضوح دون أي خبص .

يُسَن أن يتم تلقي هذا العلم مباشرة من أفواه و صدور الشيوخ العلماء – مثلما أكرمنا الله تعالى و تعلمنا أساساته على يد شيخنا و مولانا الفقيه المفسّر المربّي فضيلة الشيخ الدمشقي د. هانيبال يوسف حرب حفظه الله تعالى .

 

نسأل الله أن يجعل حياتكم أعوام حب وهناء و ليس سنين كدر و عناء

و أن يزيدكم من تجليات الجمال والمغفرة و الرضوان منه و به تعالى

و الحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى