مجلة كلمة الله تعالى

(الطاعة – بقلم : الدكتورة رفيف صفاف – العدد (50

hanibalharbmag-50.5

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على حبيبي و جدي محمّد المُطاع من الأزل إلى الأبد و آله و صحبه و ورثته من العلماء أهل العلم و الذِكر و سلم تسليما كثيرا

 

أصل الرابط الكوني بين التابع و المتبوع

هل تعلم !!! أن الأكوان بكل ما فيها من دقائق التكوين إنما تخضع لقانون أساسي هو سبب استمرارها و سر بقائها ..

إن كنت لا تعلم !! فابقى معنا لنهاية هذه السطور…

اعلم أن الأكوان كلها إنما هي مملكة الله الملك جل و علا و ما من تعين فيها إلا و يخضع لقانون التبعية لمن هو أعلى منه ،و يخضع له من هم أدنى منه. (التَعَيُن هو أي مخلوق كان من بشر أو حجر..،أعطاه الله درجة من درجات التكوين، و أعلى التَعَيُنَات البشر من كونهم مستخلفين عن الله ).

 فإذا نظرنا إلى عالم الملائكة (مع ملاحظة أن الملائكة هي مظهر الطاعة المثلى الذين لا يعصون لله أمرا) و بالرغم من طاعتهم المباشرة المطلقة للحق تعالى، إلا أن الله الملك جعل بينهم المراتب ، فإن ترتيب المراتب بينهم و تفاضل بعضهم على بعض جعلهم خاضعين لطاعة التعين الأعلى ..

و أعلى تعين فيهم هو رئيسهم جبريل عليه السلام …فرئاسة جبريل لكل الملائكة لم تكن إلا بطاعتهم له:

 {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ }التكوير21

 و كذا عالم الجن إنما مظهر الطاعة فيهم هو بكونهم قبائل تطيع مرؤوسيها ،و قبائل تطيع قبائل أعلى منها في التعيين..

و إذا ذهبنا لعالم الحيوان نجدهم إما تجمعات خاضعة لطاعة زعيمها أو أفراد تخضع لسلطة الحيوان الأقوى…

فإذا ما تفكرنا في ما دون ذلك كأجسادنا مثلا نجد خلايا تطيع أوامر عصبية ،و أعضاء تطيع حاثات و هرمونات الغدد الصم و…و لولا هذه التبعية و طاعة الترتيب الأعلى لما استمر الجسد في قيامه بوظائفه الحيوية…و الأمثلة في هذا الباب كثيرة جدا…

 لكن تعالوا نستعرض الطاعة القرآنية و نصيغ نقاطاً أساسية في فهم أبعادها:

 *أعظم قوانين الطاعة لله تعالى هي بطاعة أعلى تعين في البشر جميعا مظهر الخليفة الكامل لله تعالى حبيبي محمد عليه الصلاة و السلام ،(فطاعة الرسول من طاعة الله) :

 {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }النساء80

 و ورد في صحيح البخاري قول حبيبي محمد عليه الصلاة و السلام:

” من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني “

على أن للأمير شروط في الشريعة إن حققها أطيع و إن لم يحققها لم يطع و نحن لسنا بصددها في بحثنا هذا…

 *ومن أبواب الطاعة هنا طاعة العلماء و هم (ورثة الأنبياء) ..و منها طاعة الولي المرشد لمن ثبُتت ولايته و شُهِد له بالعلم و الكرامة ، وهذا من رحمة الله بأن ترك بيننا من بعد الحبيب محمد عليه السلام ورثته من الأولياء المرشدين فلا تنقطع روابط الطاعة الكونية التي هي مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.

 *و اعلم أن (طاعة الرسل أصل الرسالة كلها) و أن ظلم النفس لا يكون إلا بمخالفة الرسل ،إذن أصل الرسالة طاعة الرسول:

 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً }النساء64

 *و من قوانين الطاعة (ألا يطيع الأعلى في الترتيب من هو أدنى) و هذا شرط …فأعلى ترتيب حبيبي محمد عليه الصلاة و الآل مطاع دون أن يطيعنا لما في ذلك من أدب في حضرته و رحمة لنا :

 {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ }الحجرات7

و العنت:هو الجهد و الهلاك.

 *و لو انتقلنا إلى تعين المؤمنين وجدنا وعد بالرحمة للمطيعين لله و رسوله (فالطاعة لله و رسوله شرط الإيمان)…و لاحظ كيف أن الله وضح تفاوت المؤمنين بالدرجات قبل أن يذكر الطاعة لله و الرسول و هذا وجه من وجوه حكمة الله الحكيم فالطاعة لا تكون لمن هو أدنى بل دائما و أبدا للأعلى في الترتيب:

 {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة71

 *فمن (أطاع ثم تولى خرج عن زمرة الإيمان) لفكه رابط الطاعة الكوني:

 {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } النور47

 *و (طاعة غير الله من الشياطين شرك بالله) لأن أولياء الشيطان إنما نزلوا تحت تعين الشيطان نفسه لأن الطاعة لا تكون إلا لمن هو أعلى في الترتيب و أن تأتي بفعل أولياء الشيطان و هو هنا (المجادلة) يجعلك معهم و في زمرتهم و العياذ بالله:

 { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }الأنعام121

 * و لا يغيب عنك أن طاعة أُولي الأمر أو من هم أعلى في الترتيب كالابن لأبيه و المرأة لزوجها إنما هو بأمر الله و (لا يجوز أن تكون النية في ذلك طاعة لبشر بل بما أمر الله) من ترتيب أمور مملكته ،فإن غبت عن هذا التوجه لله كنت في خسران أي مبالغة الخسارة:

{وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } المؤمنون34

 *و كذا الأمر فإن الطاعة بين البشر تخضع لمحدد شرعي عظيم هو :

“لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق “

 *من أبواب الرحمة الإلهية أن (الرجوع عن العصيان و إعادة وصل رقائق الطاعة تعيد الرابط لتوازنه ) ، فمن أطاعت زوجها بعد عصيان و نشوز سلمت:

 { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } النساء34

 و لا ننسى كيف تبيت المرأة و قد لعنتها الملائكة إن لم تطع زوجها و ذلك لنشوزها عن قانون الطاعة لمن هو قوّامها و في فعلها هذا تمرد على قانون الحق تعالى في ترتيب المراتب بين البشر ..

*فاغنم وصلك برابط الطاعة الكوني قبل أن يرحل الموكب و تُحشر مع العاصين في نار المقطوعين عن رقائق طاعة الله و الرسول…فعندها لا ينفع التمني:

 {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } الأحزاب66

 و بتفكر بسيط في أمور الخلق نجد أن معظم المشاكل في كل مكان إنما هي في صلب عدم الطاعة لمن أُمِرنا بطاعته و الامتثال لأمره بدءا من زوجة نصّبت نفسها قوام البيت فلم تطع القوام الحق إلى ابن جعل من نفسه ولي أمر أبويه و غيرها من المشاهد كثير…

و لا ننسى مسؤولية المتبوع في الإحسان للتابع و حسن القول و أخذه بعين الرحمة “رحمتي سبقت غضبي”..

 والحمد لله الذي لا يحمد سواه على نعمة طاعته فالأمر فإن أذن لك بطاعته فاعلم أنك في حياض رحمة لا تقدر..

و صلي اللهم على مظهر الحب المطاع أبدا حبيبي محمد عليه الصلاة و السلام و آله و صحبه أجمعين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى