مجلة كلمة الله تعالى

(أمواج الأشواق – بقلم : الدكتورة فايزة الجعبري – العدد (74

بسم الله الرحمن الرحيم

و الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله سيد المحبين حبيب رب العالمين وصفيه ومصطفاه وعلى آله وصحبه أجمعين ..

لما كان الحب سبب وجود العالم كما ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه بما معناه : ( كنت كنزاً لم أعرف فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، و تعرفت إليهم فعرفوني ) .
ومن ذكره تعالى للحب علمنا من حقيقة الحب ولوازمه مما يجد المحب في نفسه، فكان الحب أصل سبب وجود العالم :

وعـن الحب صدرنا   وعلى الحب جبلنا

فلذا جئناه قـصداً   ولهذا قد قبلنا

ولما قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)) الذاريات 56، فكانت العبادة والدين هو دين الحب كما يقول الشيخ الأكبر ابن عربي :

أدينُ بدينِ الحبّ أنّى توجهتْ   ركائبُهُ، فالحبُّ ديني وإيماني

ففي هذا الحب يحلّق العاشق في عوالم نورانيّة، حيث الينابيع الروحيّة الثرّة والفيض الربانيّ الغامر، وتنتشي روحه بنفحات إلهيّة، وتختلج نفسه بأقباس عُلويّة، ويهيم بجمال الخالق المتجلِّي، فيفيض وجدانه بترانيم الحبّ والطهر، وتذرف عيناه دموع الشوق واللوعة والخشوع .

ولما كان الشوق والإشتياق ثمرة المحبة والحب جاء الكثير والكثير في تعريف هذه العاطفة وهذه الثمرة .. فجاء في المعاجم :

الشين والواو والقاف يدلُّ على تعلُّق الشّيء بالشيء، يقال شُقتُ الطُّنُب، أي الوتِد، واسم ذلك الخيط الشِّيَاق .
و الشوق مثل النَّوْط، ثم اشتقَّ من ذلك الشوق، وهو نزاعُ النَّفْس إلى الشيء .
ويقال شاقَنِي يَشوقني، وذلك لا يكون إلاَّ : عن عَلَق حُبّ . (مقاييس اللغة)

الشوق والاشْتياقُ : نِزاعُ النفس إلى الشيء، والجمع أَشْواقٌ، شاقَ إليه شوقاً و تشوّق واشتاقَ اشْتياقاً .
و الشّوق حركة الهوى .
والشُوق العُشّاق . (لسان العرب)

والعشّاق الذين كابدوا الأشواق، يصفون الشوق لنا بقولهم :

قال القشيري : الشوق إهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب وعلى قدر المحبة يكون الشوق لأن الشوق ثمرة المحبة .

وسئل أحمد بن عطاء عن الشوق فقال : إحتراق الأحشاء وتلهب القلوب وتقطع الأكباد

وقال أبو عبد الله بن خفيف : الشوق إرتياح القلوب بالوجد ومحبة اللقاء

و يقول ابن بقي الأندلسيّ :

عبثَ الشوقُ بقلبي فاشتكى   ألمَ الوجدِ فلبّت أدمعي

إلا أن الشوق كما هو الحال في الحب وسائر ما يتصل به من مشاعر وأحاسيس لا يمكن الوقوف على كنهه إلا بالذوق ..

لا يعرفُ الشوقَ إلا مَن يكابدُهُ   ولا الصبابةَ إلا مَن يعانيها

وهكذا يمكننا القول أنّ الشوق لا علاقة له بالبعد والفراق، لأنّ الشوق صنو الحبَ، فما دمتَ مُحباً فأنتَ مشوق ..

ولما كان أول موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب هو روح سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم نسل أرواح العالم من روحه، كما قال الإمام أحمد التيجاني كان لحبة صلى الله عليه وآله وسلم أجل مكانة وأعلى رتبه، فمحبة مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوق كل محبة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (( ‏والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين‏ )) رواه البخاري .

وقد بث المسلمين والعارفين أشواقهم وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على مختلف العصور والأزمان وأودعوا هذه العاطفة مختلف أشكال الإبداع من نظم ونثر .. فأبدعوا نوعاً جديداً من الفن هو فن (المدائح النبوية) ..

فالمدح غرض من أغراض الشعر العربي، و المديح فن غنائي متصل بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته وأخلاقه ومكارمه، و هو غرض من أغراض الشعر الإسلامي دون غيره، ونقول الإسلامي دون غيره، لأن شعراء إسلاميين عديدين نظموا في هذا الباب دون أن يكونوا عرباً أو أن ينظموا بلغة الضاد .

وبعض الدارسين يذهبون إلى أن فن المدائح النبوية نشأ في ركاب الدعوة الإسلامية مع حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، وكعب بن زهير، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة . فيما يذهب باحثون آخرون إلى أن فن المدائح لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري على يد شعراء مصريين وفي طليعتهم البوصيري، إلا أن المديح النبوي كان قد أكتمل وصار غرضاً قائم الذات قبل ذلك بنحو قرنين من الزمان ومن أشهر القصائد التي نظم القصيدة المعروفة بـ (الحمدُ للّه منّا باعث الرسل) الذي يقول فيها عبد الله الشقراطسي :

الحمدُ للّه منّا باعث الرسل   هدى بأحمد منا أحمد السبل

خير البرية من بدو ومن حضر   وأكرم الخلق من حاف ومنتعل

توراة موسى أتت عنه فصدّقها   إنجيل عيسى بحق غير مفتعِل

ضاءت لمولده الآفاق واتّصلت   بشرى الهواتفِ في الإشراق الطفَل

يجمع الدارسون على أن المدائح النبوية ظهرت مع بداية الدعوة مع أغنية (طلع البدر علينا) … وقد ذكر مولده صلى الله عليه وآله وسلم الذي يصادف هذا الشهر شهر ربيع الأنور شهر مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو من أفضل الشهور بإعتبار تشرفه بمولده صلى الله عليه وآله وسلم ..

وإن التراث الأدبي الاسلامي ذاخر بعظيم القصائد و نفيس المنثورات التي تحدثت عن حبه وفضله ويوم مولده صلى الله عليه وآله وسلم ..

محمد الذي أشرقت منه أنوار الهداية الربانية وطلعت في أفق سماه شمس الفضائل والأسرار معلنة للدنيا إنقشاع الظلام عن بدر البدور وسرّ الله تعالى في الكون صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول البوصيري :

مولدٌ كان منه في طالِعِ    الكفـرِ وَبالٌ عليهم ووباءُ

فهنيئاً به لآمنة َ الفضلُ    الذي به شـُرِّفـَتْ حواءُ

مَن لحواءَ أنها حملـَتْ    أحمدَ أو أنها به نفساءُ

يوم نالت بوضعِه ابنةُ وهبٍ   مِن فـَخارٍ ما لم تنله النساءُ

شمّتـَتـْهُ الأملاكُ إذ وضعـَتـْهُ   وشفـَتـْنا بقولها الشـّـفـّـاءُ

رافعاً رأسَه وفي ذلك الرفعُ    إلى كلِ سؤدَدٍ إيماءُ

رامقاً طرْفـُهُ السماءَ ومرمى   عين ِ مَن شأنـُهُ العـُـلـُوُ العَلاءُ

ويقول ابن حجر في (النعمة الكبرى) :

( وهذا  واجب للأولاد على أصولهم أنهم يعلمونه لهم أنهم إذا بلغوا سبع سنين وميّزوا، بل إن نص كلام بعضهم أن إنكار ذلك كفر كإنكار كونه صلى الله عليه وآله وسلم قرشياً ولا ينحصر الأمر فيها، أي في كونه ولد في مكه ودفن في المدينة صلى الله عليه وآله وسلم، فلا بد أن يذكر له من أوصافه صلى الله عليه وآله وسلم الظاهرة المتواترة ما يميزه ولو بوجه، فيجب أن يبين له اسم أبيه وأمه، وأنه بعث بكذا ودفن بكذا، وأنه نبي الله ورسوله إلى كافة الخلق، وأن يذكر له لونه أي صفة خلقه الشريف ليزداد معرفة ) .

وقد تغنى العارفين لفضله صلى الله عليه وآله وسلم وبفضل الصلاة عليه فيقول : إقرع باب حبيب الله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لكي تهب عليك نسائم مكنونات أسراره وحقائقه، حتى تدنوا من مواطن القدس، وحين يصدق حبك له فإن أنواره عليه الصلاة والسلام ستحملك بجناح المحبة إلى مصاف كبار العارفين ..

وقد ذكر العارفين الكثير من صيغ الصلاة عليه وعلى آله مما فتح الله لهم من صيغ، منها :

الصلاة المشيشية للشيخ عبد السلام بن مشيش رحمه الله تعالى  ما نصه :

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَنْ مِنْهُ انْشَقَّتِ الأَسْرَارُ وَانْفَلَقَتِ الأَنْوَارُ وَفِيْهِ ارْتَقَتِ الحَقَائِقُ وَتَنَزَّلَتْ عُلُومُ آدَمَ فَأعْجَزَ الخَلائِقِ، وَلَهُ تَضَآءَلَتِ الفُهُومُ فلَمْ يُدْرِكْهُ مِنَّا سَابِقٌ ولا لاحِقٌ، فرِيَاضُ المَلَكُوتِ بِزَهْرِ جَمَـالِهِ مُونِقَة، وَحِيَاضُ الجَبَروْتِ بِفَيْضِ أَنْوَارِه مُتَدَفِقَة، وَلا شَيءَ إلا وَهُوَ بِهِ مَنُوطٌ، إذْ لَوْلا الوَاسِطَةُ لَذَهَبَ كَما قيلَ المَوْسُوطُ، صَلَوةً تَلِيقُ بِكَ مِنْكَ إِلَيْهِ كَمَا هُوَ أَهْلُهُ، اَللَّهُمَّ إنَّهُ سِرُّكَ الجامِعُ الدَّآلُّ عَلَيْكَ، وَحِجابُكَ الأَعْظَمُ القَآئِمُ لَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، اَلّلهُمَّ أَلحِقْني بِنَسَبِهِ، وَحَقِّقْني بِحَسَبِهِ وَعَرِّفني إيَّاهُ مَعْرِفَةً أَسْلَمُ بِهَا مِنْ مَوَارِدِ الجَهلِ وَأَكْرَعُ بَهَا مِنْ مَوَارِدِ الفَضْلِ، وَاحْمِلْني عَلَىْ سَبيلِهِ إلى حَضْرَتِهِ حَمْلاً مَحْفُوفَاً بنُصْرَتِكَ وَاقْذِفْ بي عَلَى البَاطِلِ فَأَدْمَغَهُ، وَزُجَّ بِي فيِ بِحارِ الأَحَدِيَّةِ وَانْشُلْني مِنْ أَوْحَالِ التبديد الى نور التَّوْحِيدِ وَأَغْرِقْني فيِ عَيْنِ بَحْرِ الوَحْدَةِ حَتَّى لاَ أرَى وَلا أسْمَعَ وَلا أَجِدَ وَلاَ أُحِسَّ إِلاَّ بِها وَاجْعَلِ الحِجَابَ الأعْظَمَ حَيَاةَ رُوحِي ورُوحَهُ سِرَّ حَقِيقَتي وَحَقيقَتَهُ جَامِعَ عَوَالمي بِتَحقيقِ الحَقِّ الأوَّلِ يَاأَوَّلُ يَاآخِرُ يَاظَاهِرُ يَاباطِنُ، اِسْمَعْ نِدَآئي بِمَا سَمِعْتَ بِهِ نِدآءَ عَبْدِكَ زَكَرِيَّا، وَانْصُرْني بِكَ لَكَ، وَأَيِّدْني بِكَ لَكَ، وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَحُلْ بَينيْ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، { اَللَّه ● اَللَّه ● اَللَّه } ، ( إنَّ الذيْ فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرادُّكَ إلَى مَعَادٍ ) – ثلاثاً – (رَبَّنا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ) – ثلاثاً.

و قد مدح العارفين مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشكل صريح أو بالتلميح وفي ذلك يقول سلطان العاشقين عمر بن الفارض لما سئل لما لم تمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنظم صريح ؟ فقال :

أرى كل مدحِ في النبي مقصراً   وإن بالغ المثني عليه و أكثرَ

إذا الله أثنى عليه بما هو أهله   فما مقدار ما تمدح الورا

و قال ابن الخطيب الأندلسي :

مدحتك آيات الكتاب الحكيم فما   عسى يثني عليك نظم مديحي

و إذا كتاب الله أثنى مفصحاً   كان القصور قصار كل فصيحي

وقال مولانا أبو مدين في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتشوق إلى زيارة مسجده وروضته :

قسمــا بطــه وهو ياسـين الذي      قد جاء فى النــجم العظيم اذا هوى

وبقاب قوســين الذى هو قـد دنا   من ربه ذو مـــرة ثم استــوى

لأجــددن نيــاحتى بسيــاحتى   أسفا على ذاك المقــام وما حـوى

حتى أمــوت وان أمت متـــحيّرا   فلكــل عبد مسلم ما قد نــوى

يارب أسألك الرضــا والعفـو عن   ما قد مضى يا من على العرش استوى

أعتق عبيـدك من لظى نار غــدا   نـزاعة يوم القيــامة للشــوى

بمحمد المختـــار خاتم رسـله   طه على فضل الجميع قد احتـوى

فعلــيه من رب العلا صلــواته   وسلامه ما غردت ورق اللــوى

فهو صلى الله عليه وآله وسلم  خاتم جميع الأنبياء والمرسلين ، ومعنى ذلك أنه ذائق لمشرب كل نبي وكل رسول ممن تقدمه، ولهذا جاء بتصديقهم كلهم وأفصح عن مقاماتهم ومراتبهم، وكشف له عن أحوالهم كلها، وتنزلت أخبارهم على قلبه بما تلاه علينا من القرآن العظيم، فنبوته أصل لجميع النبوات، والنبوات فرع من نبوته، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم : (( كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ )) أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ  وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. 

وبقية الأنبياء كانوا أنبياء حينما بعثوا لا قبل ذلك، فأصل مشارب الأنبياء كلها وهي روحانيتهم الفاضلة كالمياه المنقسمة مجموعاً في مشرب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجامع الذي هو روحانيته التي بدأ الله تعالى بها الوجود . هذا ما قاله مولانا عبدالغني النابلسي :

ولو بالغ الأولون والآخرون في إحصاء وذكر مناقب وخصائص ومعجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعجزوا جميعاً عن استقصاء ما حباه به مولاه الكريم من مواهبه الأحمدية وأخلاقه المحمدية وصفاته المصطفوية، وما مثل من أراد احصاء فضائله صلى الله عليه وآله وسلم بمدحه إلا كمثل إنسان مدّ يده ليتناول الثريا، وأين الثريا من يد المتناول كما قال بعض العارفين كما جاء في شرح الشفى لعلي القالي :

الخلق ما عرفوا الله تعالى وما عرفوا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

وهذا ما نظمة البوصيري في قوله :

فمَبْلَغُ العِــلمِ فيه أنــه بَشَــرٌ   وأَنَّــهُ خيرُ خلْـقِ الله كُـــلِّهِمِ

وحين قال الإمام السبكيّ في تائيته :

و أقسم لو أن البحار جميعها   مدادي و أقلامي لها كل غوطتي

لما جئت بالمعشار من آياتك   التي تزيد على عد النجوم المضيئة

فما من مخلوق إلا وهو سابح في نور مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومستمد من بحر نوره كل حسب مقامه، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم إمتد الوجود كله كما إمتدت الشجرة من البذرة فهو صلى الله عليه وآله وسلم أصل الوجود وأقرب موجود، ويعسوب الأرواح، وهو صلى الله عليه وآله وسلم الروح الأعظم وآدم الأكبر، ذو الكلمة الجامعة والرسالة المحيطة، وهو صلى الله عليه وآله وسلم الجامع للخلق على الخالق تعالى، والجامع لكل دوائر الخيرات والنبوات والحقائق العيانية وأسرار التوحيد الربانية ..
فصلّ اللهم عليه صلاة تنجينا بها من كل الأهوال والآفات، وترفعنا بها أعلا الدرجات، وتبلغنا بها أسما الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات .

 

و الحمد لله رب العالمين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى