فهو معراج روحي وهذا المعراج مراحل والمرحلة السابقة لمرحلة (القلب الذاكر) هي مرحلة (القلب الخاشع) .
نعود للآيتين من سورة الأعلى بعد بسم الله الرحمن الرحيم:
{ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } الأعلى9
{ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } الأعلى10
فنستنتج ما يلي :
أولا لكي تضيء أنوار الذكر في قلبك لا بد أن يكون لك قلب خاشع يقدر الله حق قدره.
قال تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }الزمر67
ثانيا أن تذكر اسم الله النافع بنية أن يكون لك قلب ذاكر.
قال تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } عبس4 ، { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } الأعلى9
فأرفق الذكرى بالنفع.
ثالثا أن تذكر اسم الله الحي بنية حياة الذكر في قلبك.
قال تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } النحل65
فشبّه الله عزّ وجل قلب الإنسان بالأرض ، أمّا معنى القلب : فهو ما يقلب الظاهر باطنا والباطن ظاهرا ، وهو جوهر عام يشمل كل أبعاد الإنسان.
وفي هذه الآية تحديدا بدأت صور الآية من صورة التراب إلى صور مراحل تكوين الإنسان.
وقابل تسلسل تلك الصور بصورة الأرض والماء وإنبات الأرض من كل زوج بهيج.
فالحكمة من ذلك من بعض وجوهها ، هو التشبيه ، فقد شبّه الله عزّ وجل قلب الإنسان الناشئ من تراب بالأرض ككوكب جامع شامل لكل عناصر الكون ( وفيك انطوى العالم الأكبر ) .
( وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً ) وترى القلب المحجوب بترابه ( هامد عن الذكر ) .
(فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء ) جاء في حديث صحيح ( الوضوء على الوضوء نور على نور ) ..
فالماء نور ، فلما تنزل على القلب الهامد نور الحق (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) شعّ القلب بالنور وبات ذلك القلب جنّة تنضح بالنماء والنكاح والتزاوج والإثمار، وأما نبات القلب هذا فهو (الذكر) وأوراقه رقائق النور بكل أبعادها.
وهذا الذكر كلمة الحق بسم الله الرحمن الرحيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء }إبراهيم24 {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }إبراهيم25
ولاحظ معي وليي بالله تعالى عبارتي ( كلمة طيبة ) ( شجرة طيبة ) وعبارة (… كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ … ) البقرة57
الذكر هو الكلمة الطيبة ( حقيقة يتذوقها الذاكرون ) { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } النحل43
والآن نعود لنطابق هذا التشبيه بحقيقة أن المعراج الروحي يأتي فيه خشوع القلوب قبل أن تؤول إلى قلوب ذاكرة.
يقول تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فصلت39
أرض خاشعة تعني أرض يابسة ( هذا بالعناصر والمواد )، أما بالمعاني والروح فهذا يعني أن القلب الخاشع حين يأتيه نور الذكرى يهتز وينبض بالحياة والمنفعة وتنبت رقائق نور الذكر فيه ويؤول إلى قلب أخضر تسري به الحياة ( فلون القلب الربّاني أخضر ) .
يقول تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ }يس80
حتى أنّ هذه القلوب الخضراء الخصبة برقائق الذكر تتوهج نورا تبصر به ،فتأتيها القلوب الخاشعة لتوقد منها أنوار ذكرها لتؤول خضراء مثلها.
فتؤول تلك القلوب الخضراء إلى شموس تسطع بالنور تدل بهذا النور الأراضين إلى الحق عز وجل.
وهذا تفسير قوله صلى الله عليه و على آله و صحبه وسلم: ”أصحابي كالنجوم في أي اقتديتم اهتديتم ” ،أي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه نجوم تدل أراضين القلوب المحمولة على ( سفينة البدن الإنساني ) في ليل الغفلة إلى نهار الشهود الإلهي ورؤية تجلياته.
بسم الله الرحمن الرحيم : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } يس41
أمّا ( الشمس ) قطب النجوم فهي رمز حقيقة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ، نور ذاتي محض تسري أنواره حياة في عروق السموات والأراضين، وهذا معنى أنه كان لا ظلّ له فهو نور ذاتي محض.
ومنه نفهم قوله تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } الجاثية5
مما سبق نجد أن القلوب على الفطرة أراضين خاشعة ذكرها كنز دفين ككتاب مكنون بخشوعها تؤول إلى قلوب ذاكرة بل أراضين خضراء زاخرة بالحياة والنبات والمنافع ،تجد في تلك القلوب جناتها … وحين تفنى تلك القلوب بذكرها تؤول إلى نجوم ، دلّالة إلى الحق تشتعل لتنير درب الآخرين بمتعة أبدية راضية ذاتيا مرضية للسالكين الذين طلبوا طريق الحق.
فمن هو في مرحلة القلب المؤمن ويعمل في الأرض صالحا له بشرى القلب الذاكر .
( ولا حظ وصف القلب الذاكر بأن فيه جنات ونبات ونماء وماء وحياة ) {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} ، فهنا نجد مطابقة ومشابهة بين الثمر المادي والثمر المعنوي ، حتى نفوسهم وأرواحهم تصبح طاهرة وباتوا في جناتهم على الخلود وهذا نتاج ثمرة الخلود التي حصل عليها أبانا آدم عليه السلام في جنته
يقول تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم :
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } الحج34
قال تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } الأعراف69
منه نجد أنّ الذكر ينتج عنه الفلاح.
يقول تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { … وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } البقرة189
وفي آية أخرى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } المائدة100
ومنه نجد أنّ الفلاح أعلى مقاما من التقوى.
وفي آية أخرى فيما يتعلق بالتقوى ، بسم الله الرحمن الرحيم : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } الأعراف26
وهنا مطابقة معنوية مادية بين اللباس المادي الذي يواري السوءة واللباس المعنوي هو لباس التقوى فكما تلبس لباسك لتواري عورتك فأن تلبس لباس التقوى تواري بذلك منشأك الترابي المهين لتكون ربّاني.
بسم الله الرحمن الرحيم :{ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى } طه76
والجنّة تكون في القلب الذاكر جزاء من تزكّى كما جاء في الآية.
ويقول تعالى بعد بسم الله الرحمن الرحيم : { … إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } فاطر18
وجميع المراحل السابقة من الإسلام إلى الإيمان إلى الإخبات إلى الخشوع إلى التزكية إلى القلب الذاكر، هذا عبودية لله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } البقرة21
بينما التقوى والفلاح صفة الربانيين من العبيد ، بسم الله الرحمن الرحيم : { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } المدثر56
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والحمد لله رب العالمين