بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلَّ على سيدنا محمد إمام الأولياء وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
إن لصحبة الصالحين أثر كبير في صلاح النفوس , والإطلاع على سيَرهم وحياتهم وحكمهم لَهُوَ موعظة وشحذ للهمم حتى نصل إلى المولى عز وجل بقلب سليم , ولهذا سأختار لكم اليوم مع الشيخ الجليل أبو القاسم الجنيد .
أبو القاسم الجنيد 297 للهجرة
الجنيد بن محمد، الخراز القواريري أبو القاسم , شيخ وقته ، ونسيج وحده، أصله نهاوند، ومولده ومنشؤه ببغداد.
صحب جماعة من المشايخ، واشتهر بصحبة خاله السري ، والحارث المحاسبي , ودرس الفقه علي أبي ثور ، وكان يفتي في حلقته – بحضرته – وهو ابن عشرين سنة.
قال:” كنت بين يدي سرّي ألعب ، وأنا ابن سبع سنين ، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر؛ فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ قلت : الشكر ألا تعصي الله بنعمة , فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك , قال الجنيد: فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السري” .
وقال : ” علامة الإعراض عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه ” .
وقال : ” من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة”.
وقال : ” من طلب عزاً بباطل أورثه الله ذلاً بحق”.
وقال : ” من همّ بذنب لم يفعله ابتلي بهمّ لم يعرفه”.
وقال : ” الصوفيّة أهل بيت واحد، لا يدخل فيهم غيرهم”.
وقال : ” الأدب أدبان: أدب السرّ، و أدب العلانية، فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب”.
وقال له رجل : ” علمني شيئاً يقربني إلى الله وإلى الناس , فقال : أما الذي يقربك إلى الله فمسألته ، وأما الثاني فترك مسألتهم”.
وقال : ” لكل أمة صفوة، وصفوة هذه الأمة الصوفيّة “.
وسئل : “من العارف؟, فقال : من نطق عن سرك وأنت ساكت”.
و رؤي في يده يوماً سبحة، فقيل له:” أنت، مع تمكنك وشرفك، تأخذ بيدك سبحة ؟ فقال: نعم سبب وصلنا به إلى ما وصلنا لا نتركه أبداً ” يقصد الذكر .
وقال : ” قال لي خالي سري السقطي : تكلم علي الناس”! وكان في قلبي حشمة من ذلك ، فاني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك، فرأيت ليلة في المنام رسول الله صلي الله عليه وسلم – وكان ليلة جمعة – فقال لي ” : تكلم علي الناس , فانتبهت، وأتيت باب سري قبل أن أصبح، فدققت الباب، فقال: لم تصدقنا حتى قيل لك , فقعدت في غد للناس بالجامع، وانتشر في الناس أني قعدت أتكلم، فوقف علي غلام نصراني متنكر وقال : أيها الشيخ! ما معنى قوله عليه السلام: اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله ؟ فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: ” أسلم فقد حان وقت إسلامك , فأسلم”.
وقال الجنيد : ” معاشر الفقراء إنما عرفتم بالله ، وتكرمون له , فإذا خلوتم به فانظروا كيف تكونون معه”.
وقال رجل له : ” على ماذا يتأسف المحب من أوقاته ؟ قال: على زمان بسط أورث قبضاً ، أو زمان أنس أورث وحشة , ثم أنشأ يقول:
قد كان لي مشرب يصفو برؤيتكم فكدرته يد الأيام حين صفا
وقال الخلدي : ” دفع إلي الجنيد درهما ، وقال: اشتر به تيناً وزيرياً ، فاشتريته ، فلما أفطر أخذ واحدة ، ووضعها في فيه، ثم ألقاها وبكى ، وقال لي: احمله فقلت له في ذلك ، فقال: هتف بي هاتف في قلبي
أما تستحي تركت هذا من أجلي ثم تعود “. ثم أنشد :
نون الهوان من الهوى مسروقة فصريع كل هوى صريع هوان
وقال أبو عمرو بن علوان : ” خرجت يوماً إلى سوق الرحبة في حاجة ، فرأيت جنازة ، فتبعتها لأصلي عليها ، فوقفت حتى تدفن ، فوقعت عيني على امرأة مسفرة ، من غير تعمد ، فألححت بالنظر إليها ،واسترجعت واستغفرت الله تعالى وعدت إلى منزلي. فقالت عجوز لي : يا سيدي مالي أرى وجهك أسود؟ فأخذت المرآة فنظرت ، فإذا هو كما قالت ، فرجعت إلى سري أنظر من أين ذهبت ، فذكرت النظرة، فانفردت في موضع ، أستغفر الله ، وأسأله الإقامة ، أربعين يوماً , فخطر في قلبي: أن زر شيخك الجنيد , فانحدرت إلى بغداد ، فلما جئت حجرته طرقت الباب ، فقال لي:” ادخل يا أبا عمرو! تذنب بالرحبة ونستغفر لك ببغداد”.
وقال علي بن إبراهيم الحداد : ” حضرت مجلس ابن سريج الفقيه الشافعي ، فكان يتكلم في الفروع والأصول بكلام حسن عجيب , فلما رأى إعجابي قال: أتدري من أين هذا ؟ , قلت : لا , قال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد”.
وقال خير : ” كنت يوماً جالساً في بيتي ، فخطر لي خاطر ، أن الجنيد بالباب فاخرج إليه ، فنقيته عن قلبي وقلت وسوسة , فوقع لي خاطر ثان بأنه على الباب فاخرج إليه ، فنقيته عن سري, فوقع لي ثالث ،فعلمت أنه حق ، ففتحته، فإذا بالجنيد قائم ، فسلم علي ، وقال لي : يا خير لم لا تخرج مع الخاطر الأول ؟ “.
وقال عبد الرحمن بن إسماعيل : ” كنت ببغداد، ووافى الحاج من خراسان ، فلقيني بعض أصحابنا ممن له فضل وإفضال ، فسألني أن أعرفه بجماعة ليصلهم بشيء ، فقلت له : ابدأ بالجنيد , فحمل إليه دراهم وثياب كثيرة ، فلما رآه أعجبه أدبه في رفقه ، فقال: اجعل بعضه لفقراء اذكرهم لك , فقال: أنا أعرف الفقراء أيها الشيخ , فقال له الجنيد: وأنا آمل أن أعيش حتى آكل هذا، فقال: إني لم أقل لك أنفقه في الخل والبقل ، والكامخ والجبن والمالح ، إنما أريد أن تنفقه في الطيبات وألوان الحلاوات ، فكلما أسرع فهو أحب إلي , فتبسم الجنيد وقال : مثلك لا يجوز أن يرد عليه , وقبل ذلك منه , فقال الخراساني: ما أعلم أحداً ببغداد أعظم منة علي منك ، فقال الجنيد: ولا ينبغي لأحد أن يرتفق إلا ممن كان مثلك”.
وقال الجنيد : ” رأيت إبليس في المنام كأنه عريان ، فقلت له: أما تستحي من الناس فقال : يا لله , هؤلاء عندك من الناس! لو كانوا منهم ما تلاعبت بهم كما تتلاعب الصبيان بالكرة ، ولكن الناس غير هؤلاء ؟, فقلت : ومن هم قال: قوم في مسجد الشونيزي ، قد أضنوا قلبي ، وأنحلوا جسمي , كلما هممت أشاروا بالله، فأكاد أحرق . فانتبهت ولبست ثيابي ، وأتيت مسجد الشونيزي وعلى ليل ، فلما دخلت المسجد إذا أنا بثلاثة أنفس – قيل: هم أبو حمزة، وأبو الحسين النوري، وأبو بكر الزقاق – جلوس، ورؤوسهم في مرقعاتهم , فلما أحسوا بي قد دخلت أخرج أحدهم رأسه وقال: يا أبا القاسم أنت كلما قيل لك شيء تقبله ! ” .
وقال أبو محمد الجريري :” كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ ، فقلت: ارفق بنفسك , فقال: ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت ، هو ذا تطوى صحيفتي”.
وقال أبو بكر العطار: ” حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا ، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله ، فثقل عليه حركتها ، فمد رجليه وقد تورمتا ، فرآه بعض أصحابه فقال : ما هذا يا أبا القاسم ، قال: هذه نعم , الله أكبر , فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري : لو اضطجعت , قال: يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه , الله أكبر , فلم يزل ذلك حاله حتى مات”.
وقال ابن عطاء : ” دخلت عليه ، وهو في النزع ، فسلمت عليه ، فلم يرد ، ثم رد بعد ساعة ، وقال: اعذرني! فإني كنت في وردي ، ثم حول وجهه إلى القبلة ومات”.
وكان عند موته قد ختم القرآن ، ثم ابتدأ في البقرة فقرأ سبعين آية.
وكانت وفاته في شوال ، آخر ساعة من يوم الجمعة ، سنة سبع وتسعين ومائتين ببغداد , وقيل سنة ثمان. وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده ، ودفن بالشونيزيه ، بتربة مقبرة بغداد ، عند خاله سري , وحزر الجمع الذين صلوا عليه، فكانوا ستين ألفاً.
قال أبو محمد الجريري : ” كان في جوار الجنيد رجل مصاب في خربة ، فلما مات الجنيد ودفناه ، تقدمنا ذلك المصاب ، وصعد موضعاً رفيعاً ، وقال لي: يا أبا محمد! تراني أرجع إلى تلك الخربة بعد أن فقدت ذلك السيد ، ثم أنشد :
وا أسفي من فراق قـــــــوم هم المصابيح والحصـون
والمدن والمزن والرواسي والخير والأمن والسـكون
لم تتغير لنا الليــــــــــــالي حتى توفتهم المنـــــــــون
فكل جمر لنا قلـــــــــــــوب وكل ماء لنا عيــــــــــون
ثم غاب عنا فكان ذلك آخر العهد منه “.
وأنشد الجنيد مرة :
وإن امرئ لم يصف لله قلبــه لفي وحشة من كل نظرة ناظر
وإن امرئ لم يرتحل ببضاعة إلى داره الأخرى فليس بتاجر
وإن امرئً باع دنيا بدينــــــه لمنقلب منها بصفقة خاســـــر
وسئل عن الفقر فأنشأ يقول :
لا الفقر عار ولا الغنى شرف ولا شيء في طاعة سرف .
قلت : وأستاذ الجنيد محمد بن علي القصاب ، أبو جعفر البغدادي , وكان الجنيد يقول :” الناس ينسبوني إلى سري ، وإنما أستاذي هذا ” , يعني القصاب .
سئل القصاب : ” ما بال أصحابك محرومين من الناس , قال : لثلاث خصال : أحدها أن الله لا يرضى لهم ما في أيديهم ، ولو رضي لهم ما لهم لترك ما لأنفسهم عليه. وثانيها: أن الله لا يرضى أن يجعل حسناتهم في صحائفهم ، ولو رضي لهم لخلطهم بهم. وثالثها: أنهم قوم لم يسيروا إلا إلى الله ، فمنعهم كل شيء سواه وأفردهم به “.